جليلة حفصيّة شخصيّة ثقافيّة ونسويّة تونسيّة تركت بصمتها الفكريّة المميّزة في تاريخ تونس الثّقافي المعاصر، ولا سيّما في الستينات من القرن العشرين، وهي الفترة الّتي تلت مباشرة نيل الاستقلال بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة (1903-2000)
ولدت جليلة حفصيّة عام 1927 في مدينة سوسة من أب ينتسب إلى مدينة مساكن الساحليّة ويشتغل موظّفا، وأمّ مثقّفة يعود نسبها إلى عائلة الزاوش، وهي إحدى العائلات العريقة المستوطنة في حاضرة تونس. نشأت جليلة حفصيّة في كنف احترام العادات والتقاليد المحافظة الّتي ميّزت طبقتها، ولكنّها استفادت في الوقت ذاته من الإمكانيّات الّتي أتاحها لها هذا الانتماء، فقد كان أبوها حريصا على تعليمها، فأحضر لها ولأخواتها معلّما درّسها اللّغة العربيّة وتاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة في البيت، هذا فضلا عن ترسيمها بالتّعليم المدرسيّ الّذي مكّنها من نيل الشهادة الابتدائية بتفوّق، والالتحاق فيما بعد بالمعهد لمزاولة المرحلة الثّانويّة بسوسة، ولكنّ جدّها للأمّ جعلها تنقطع عن استكمال هذه المرحلة الّتي لم تمض فيها أكثر من ثلاث سنوات، لأنّه قرّر تزويجها وفقا لأعراف العائلة من ابن خالها الميسور، فانتقلت إلى السكنى في ضاحية المرسى الشّماليّة. أمّا أمّها فقد كانت امرأة مثقّفة عرفت بإقبالها الشديد على المطالعة، ولاسيّما باللّسان الفرنسيّ، وهو ما جعل جليلة حفصيّة تنشأ على حبّ الكتب والكتابة حبّا جمّا، وترى فيهما عالمها المفضّل وغاية وجودها الأسمى. وكانت إلى ذلك تجد في صحبة أمّها - لمّا نضجت ومضت شوطا كبيرا في دعم عصاميتها- نعم الصديقة التّي كانت تطارحها قراءاتها، وترافقها في مختلف التظاهرات الثّقافيّة والفنيّة المتاحة في زمانها، مثل حضور المسرحيات، ومشاهدة الأفلام المعروضة، فضلا عن مناقشة المؤلّفات الفرنسيّة التي كانت متاحة للقراءة لهما. هذا المناخ هيّأها لكي تهتمّ بتحصيل المعرفة - خارج الإطار المدرسيّ الرسميّ- حدّ العشق والتضحية بحياتها العائليّة والشخصيّة، ذلك أنّ جليلة حفصيّة مثّلت أنموذجا فريدا من نوعه لامرأة تونسيّة تحدّت كلّ الأعراف المكرّسة في بيئتها الخاصّة والعامّة- مثل اقتصار المرأة على حدّ أدنى من التعليم والاكتفاء به من أجل التفرّغ للحياة الزوجيّة والأسريّة والإنجاب، وهي الوظائف الجندريّة الأساسيّة-، كلّ ذلك لغاية تحقيق ذاتها الشّخصيّة الفرديّة: الخاصّة والمعرفيّة في آن.
لقد كان ولعها بالمعرفة واستقصائها سواء في بطون الكتب، أو عبر تكوين علاقات صداقة علميّة وفنيّة في تونس وحتّى خارجها، أوّل الأسباب الّتي دفعتها إلى طلب الطلاق تباعا من أزواجها الثلاثة (ابن خالها، محام كان يترأس في الستينات مكتب أحمد المستيري(1925-2011)، واستمر زواجها معه لأكثر من عقد، وأخيرا رئيس مدير عامّ معمل السكر الّذي رفضت مصاحبته للخارج لاستكمال رسالته العلميّة). وقد اعترفت في كتابتها الذاتيّة (لحظات حياة،7 ج.) أنّها لم تكن لتنفصل عن أيّ منهم، وخاصّة المحامي الّذي أنجبت منه طفلا توفيّ، لولا ولعها بتطوير شخصيّتها الفرديّة الطامحة بنهم شديد للإقبال على المعرفة في كنف الاستقلاليّة المعنويّة والماديّة، إذ كانت تقول وتكرّر دائما، "لا ينبغي لي أن أشعر بالملل، فإذا حدث وأصبت بالملل أنصرف "فرغم أنّ حياتها الزوجيّة كانت توفّر لها ما تحتاجه ماديّا، فقد رفضت قطعيا أن تكون أسيرة الوظائف الجندريّة التقليديّة، وتابعة لزوج يعيلها ويستأثر بها زوجة تعيش حياتها في كنفه. لقد كانت على عكس ما أنشئت عليه من تربية أنثويّة محافظة، طوّاقة إلى الانعتاق بالمعنى الوجودي والاجتماعيّ، تبحث عن تكوين تجربتها الاجتماعيّة الخاصّة، وتحقيق أحلامها الفرديّة بحياة حرّة تصرفها لما كان يلذّ لها القيام به من رحلات وقراءات وأنشطة ثقافيّة، تتفاعل فيها مع بيئتها ومحيطها الاجتماعيّ من أجل إثبات ذاتها وتعزيز خبراتها بالحياة والاشتباك مع قضاياها ونضالاتها المطروحة في فترة تاريخيّة حسّاسة، هي فترة بناء الدولة الوطنيّة الفتيّة، وفترة النّهوض بالشعب التّونسي الّذي كان قد عانى من ويلات الاستعمار، ثمّ أصبح يتوق بعد الاستقلال إلى بناء هويّته الوطنيّة ومستقبل وطنه السّياسيّ والحضاري. هذه الخصوصيّات النّفسيّة والمعنويّة السيرذاتيّة هي الّتي حدت بها - بعيد طلاقها الثّاني- للبحث عن شغل رغم تواضع كفاءتها المهنيّة، والاستقلال بسكناها في شقّة صغيرة بشارع النمسا في تونس العاصمة. وتعدّ هذه المرحلة مفصليّة في تاريخ جليلة حفصيّة، ليس لأنّها أثبت خلالها تحدّيها للمواضعات الاجتماعيّة وحسمها لخيار حياتها الأوحد فحسب، وإنّما لأنّ هذه المرحلة كانت ستدشّن فعليّا بداية انفتاحها على العمل الثّقافيّ، بما هو مشروع حياتها النضالي الميدانيّ الّذي سيترك بصمتها في عقول مجايليها من النخبة التّونسيّة المثقّفة، وحتّى المواطنين العاديين الّذين كانوا يؤمّون أنشطتها الثقافيّة والفنيّة، وخاصّة منهم هؤلاء الّذين كانوا يعيشون في قلب المدينة العتيقة أين أسّست ناديها الثّقافي الشهير الطاهر الحدّاد(1974- 1987).
لقد انتقلت بداية من العمل بوزارة الثقافة بعد اجتيازها بنجاح مناظرة الانتداب إلى ممارسة العمل الثقافي بفضاء البلفيدير، ولكن سرعان ما أقفل هذا الفضاء لأسباب سياسيّة ووقع تعويضه بأمر من محمود المسعدي بنادي الطاهر الحدّاد، وهو في الواقع اصطبل كان على ملكيّة دار الأصرم وقع ترميمه ليصبح قبلة لنخبة من المثقفين التونسيين، وخاصّة الجامعيين منهم، مثل صالح القرمادي(1933-1982) الصديق المقرّب من جليلة حفصيّة وتوفيق بكّار( -2017) وزهيّر السافي(1924-1976) الطبيب الجرّاح والمؤرّخ هشام جعيّط(1935-2021)، والمسرحيّ علي بن عيّاد(1930-1972). هذا فضلا عن حضور الشباب الجامعيّ من ذكور وإناث من أجل تأثيث النوادي الفنيّة والثقافيّة المختلفة(مسرح، موسيقى، رسم، قراءة كتب ...) الّتي كان هؤلاء يشاركون فيها بمختلف إبداعاتهم، ولم يقتصر الأمر على هذا الحضور التّونسيّ المكثّف، فقد لجأت جليلة حفصيّة إلى النخبة الفكريّة الأوربيّة، ولاسيّما منها الفرنسيّة من أجل التّعريف بآخر التيّارات الفكريّة والأدبيّة في فترة الستينات وما بعدها، وبذلك استقطب نادي الطاهر الحدّاد أسماء كانت لامعة في زمانها، مثل الفيلسوف مشال فوكو، والروائي المنتمي لتيّار الرواية الجديدة آلان روب-غرييهAlain Robbe-Grillet، ومشال بوتور Michel Butorوغيرهم ، فضلا عن متابعة أعمال أعلام آخرين مثل سيمون دو بوفوار Simone de Beauvoir، وذلك من خلال قراءة كتاباتها، وخاصّة منها الجنس الثّانيLe deuxième sexe الّذي أحدث وقتها ثورة نسويّة عارمة، وكثيرا من الجدل لم يكن غائبا عن المطارحات الفكريّة في النادي، وهو دور هامّ لعبته جليلة حفصيّة من أجل نشر الوعي النسويّ والتحسيس بقضايا المرأة باعتبارها جزءا لا يتجزّأ من مهمّتها الثقافيّة التوعويّة العامّة، لذلك مثّل هذا النادي تاريخيّا نقطة تحوّل ايديولوجيّة فارقة بالنسبة إلى نساء تونس المثقّفات والمعنيّات بالنضال النسويّ، فكان النواة الأولى الّتي ستهيئ ما بعديّا لنشأة الجمعيّات النسائية، ومن أهمّها جمعيّة النساء الديمقراطيّات. ومن الأهميّة بمكان أن نؤكّد هذا الدور الثقافي التنويري الممتاز الّذي أسهمت به جليلة حفصيّة في بناء تاريخ الثّقافة التّونسيّة الحديثة وربط نخبتها الفكريّة بنخب العالم المنتجة للمعرفة، وإرساء تقاليد حواريّة تفاعليّة رفيعة المستوى تهتمّ بالفنون بأنواعها وبالآداب، وهو إسهام نراه يمثّل عملا دؤوبا بفضل شخصيّة جليلة حفصيّة الإنسانيّة الملتزمة والتنشيطيّة التّفاعليّة، والمتطوّعة والمنفتحة على الآخر دون عقد أو انحياز من أجل تغيير تاريخ العقليّات التّونسيّ، والعمل على ربطه بما كان يجدّ في العالم من أفكار وفلسفات واتّجاهات ثقافيّة وفنيّة مجدّدة. وكانت تعرّف كلّ هؤلاء المستقدمين من أهل الفكر والفنّ بتونس ثقافيّا وحضاريّا من خلال مصاحبتهم في جولات سياحيّة عبر مدن البلاد، وتعريفهم بالتراثّ و الشخصيّات التونسيّة بما فيها السياسيّة منهم، فقد كانت علاقتها وطيدة بالطبقة السياسية المؤسسة للدولة الوطنيّة الّتي كانت تجمع بين حبّ المعرفة والشأن السياسي، فعلاقتها كانت وطيدة بالطيب المهيري) (1924-1965والشاذلي القليبي و محمود المسع(1911-2004) ، وكذلك بالرئيس الحبيب بورقيبة الّذي كانت تكنّ له كلّ الإعجاب، وخاصّة بشخصيّته المثقّفة والطموحة – رغم أنّها لم تكن موافقة دائما على كلّ توجّهاته السياسية – وقد توطّدت علاقتها به وبعقيلته المناضلة وسيلة بن عمار، خاصّة لمّا اصطحبته باعتبارها ملحقة صحفيّة عام 1965 في جولته التاريخيّة عبر بلدان الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد لابدّ من تأكيد استقلاليّة شخصيّة جليلة حفصيّة الكبيرة وعدم احتفائها بالمناصب السياسيّة، وهي لم تكن لتخلط بين الصداقات والانتماءات الايديولوجيّة، تتعامل ثقافيّا مع الجميع بأريحيّة كبيرة، وتتمتّع بتفكير حرّ نادر، خاصّة في مثل تلك الفترة المبكّرة من خروج المرأة التونسيّة إلى الفضاء العامّ، واختلاطها بالنخبة الرجاليّة، وهو ما أكسبها ثقة في نفسها دون السقوط في الغرور أو الوقوع في شرك الأحكام المسبّقة، وهي معادلة صعبة اجتازتها بنجاح كبير، وبقيت إلى آخر حياتها متمسّكة بها في مواقفها وسلوكها.
بعد المدّة النشيطة والمشعّة الّتي لعبت فيها جليلة حفصيّة دورا ثقافيّا بارزا في نادي الطاهر الحدّاد توقّفت لفترة عن العمل، ثمّ ما لبثت أن عادت من جديد إلى الحراك الثقافي في آخر الثمانينات بطلب من الشاذلي القليبي(1925-2020) رئيس بلديّة قرطاج آنذاك، فأسّست بهذه الضاحية الشماليّة فضاء صفنيبه Sophonisbe (أميرة وبطلة قرطاجنيّة) في ظروف أقلّ ما يقال فيها أنّها كانت صعبة من الناحية اللوجستيكيّة، ولكنّ جليلة حفصيّة استطاعت بما كانت تتمتّع به من حنكة وإرادة قويّة من رفع الرّهان، وتحويل هذا الفضاء المستحدث إلى نقطة ضوء ثقافيّة في تاريخ تلك الحقبة الّتي تربّع فيها الرئيس زين العابدين بن عليّ(1936- 2019) على سدّة الحكم، ورغم كلّ الضغوطات الّتي مورست عليها من أجل تسييس هذا الفضاء، فقد امتنعت عن تقديم ولأئها للسلطة الحاكمة، ورفضت تغيير استراتيجيّتها الثّقافيّة القائمة على استقطاب النّخبة وجعل الفضاء الثّقافي منبرا حرّا لكلّ أنواع المقاربات والايديولوجيّات، وهو ما أغضب أهل الحلّ والعقد فوقع غلق المقر،ّ وتخلّت جليلة حفصيّا نهائيا عن التنشيط في الفضاء العامّ.
ومن الأهميّة بمكان أن نشير أيضا إلى أنّ جليلة حفصيّة كانت تمارس الصحافة بالتوازي مع التنشيط الثقافي وذلك على امتداد ثلاثة عقود من الزمن. بدأت بنشر مقالها الأول في مجلّة قرطاج Carthage، وفي جرائد أخرى مثل العملl’action ولابريس La presse والقدس وغيرها، فضلا عن تأثيثها لبرامج إذاعيّة مثل برنامج تيه Errance وكانت مقالاتها بمثابة حامل يعضد التنشيط الثقافي ويدعمه، فكتبت عن القضيّة الفلسطينيّة وعن الشاعرة الفلسطينيّة فدوى طوقان، ودافعت عن العدالة الاجتماعيّة وعن قضايا المرأة العاملة الّتي خرجت إلى الفضاء العامّ، وهو غير مهيّا بعد لمعاملتها على أساس العدل والمساواة في مختلف مؤسّسات الدولة، رغم وجود مجلّة الأحوال الشخصيّة الداعمة لحقوق النساء. وقد كان مسارها الصحفي ثريّا ومتنوّعا وداعما لنضالها الميداني الثّقافي الّذي كان يرمي إلى تغيير العقليّات وتطوير منظومة القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة العامّة والإسهام في مناصرة الحقّ الفلسطيني المغتصب، وحقوق الإنسان.
تركت جليلة حفصيّة بعد وفاتها رصيدا ببليوغرافيا جديرا بالاحترام والاهتمام، فعلاوة على الأرشيف الصحفي الّذي أثّثته مقالاتها المتنوّعة الّتي أشرنا إلى نوعيّتها، تعاطت الكتابة الروائية، فكانت أوّل كاتبة تونسيّة فرنكوفونيّة تكتب رواية باللّسان الفرنسي وعنوانها رماد في الفجرCendre à l’aube(الدار التونسيّة للنشر 1975)، وأقاصيص ونصوص قصيرة فجأة الحياة Soudain la vie(1992) القلم في حالة تحرّر La plume en liberté (1983)، وهي إلى ذلك كلّه رائدة في كتابات الذّات أيضا، فقد أمضت سنوات طويلة من عمرها تدوّن يوميّا يوميّاتها الخاصّة بالفرنسيّة، لحظات حياة, Instants de vie, chronique familière ضخّت فيها كلّ أحداث أيّامها الهامّة، الشخصيّة منها والعامّة، وقد صدر هذا المؤلّف في 7 مجلّدات ضخمة نالت بها جائزة الكريديف عام 2010 إلى جانب جوائز أخرى عربيّة وتونسيّة اعترافا بإبداعاتها الكتابيّة الملهمة.
كرّمت جليلة حفصيّة على صعيد وطنيّ، فقد منحها رئيس تونس بالنيابة محمد الناصر في 2019 وسام الاستحقاق الثّقافي.
ببليوغرافيا
Azza Chaabouni, reportage de la bibliothèque nationale de Tunis.
Hanen Zbiss, La revue du credif, « Jalila Hafsia, une grande militante pour la culture »
Jelila Hafsia, instants de vie, chronique familière, (2007
2015), 7t.
جليلة الطريطر
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية