سعاد فري عفّاس، شخصيّة فريدة من نوعها ترقى إلى مرتبة التونسيّة القدوة التي مثّلت طيلة حياتها الزاخرة بالعمل والنشاط الدؤوب المرأة المربيّة والمواطنة المستنيرة التي آمنت بفاعليّة دور المرأة التونسيّة المثقفة في بناء الدولة الحديثة اعتمادا على تنشئة أجيال من المتعلّمين متحفّزين للمعرفة والتحلّي بمكارم الأخلاق، والإسهام المستمرّ في دعم مسيرة التّقدم الحداثيّة المستنيرة في تونس.
ولدت سعاد فري عفّاس بمدينة الحمّامات في 21-12-1942. حيث زاولت تعليمها الابتدائي (1948-1955) ثمّ الثانوي (1956-1959) والتحقت بعد ذلك بمدرسة ترشيح المعلّمات بتونس (1959-1962) ثمّ واصلت تعليمها العالي بكليّة الآداب شعبة علم النفس والبيداغوجيا (1965-1967) فأهّلها هذا المسار التعليميّ لكي تمارس مهنة التدريس علميّا وبيداغوجيّا، إذ بدأت ممارسة مهنتها مربّية في نابل ثمّ في العاصمة إلى سنة 1986، ثمّ تدرّجت في مهام تربويّة إداريّة متنوّعة، إذ تقلّدت خطّة مديرة مدرسة (1991- 1992) ثمّ مساعدة بيداغوجيّة (1987-1988) ومكلّفة بالتنشيط الثقافي والاجتماعي والرّياضي بالوسط المدرسي (1993-2002). هذه المسيرة التربويّة المنفتحة على المحيط الاجتماعي الثّقافي مثّلت أبرز ما يميّز الإضافة النوعيّة التي قدّمتها سعاد فري عفّاس لبلادها، فكانت بمثابة أنموذج يحتذى لأجيال الناشئة التي تربّت على يديها.
وإذ أردنا أن نفهم الإضافات النوعيّة الكبيرة التي ميّزت مسيرة سعاد فري عفّاس وجعلت منها مسيرة استثنائيّة زاخرة بالعطاء الثقافي والتربويّ، فينبغ لنا أن نربطها بشخصيّتها الفذّة، وأهليتها للقيادة ودأبها على العطاء دون انتظار مقابل مهما كان نوعه، فكأنّ ما تقوم به من نشاط تطوّعي هو رسالة نبيلة محضة موجّهة على الدوام لتحقيق معنى حياتها الأسمى، كذلك نربط هذه الفذاذة في الشخصيّة بالتكوين الكشفي الطلائعي الذي عزّز لدى سعاد عفّاس روح المبادرة والإصلاح والتعويل على الكفاءة الشخصيّة وتطويع المجال التربوي وجميع ما تقوم به من أنشطة جمعياتيّة أخرى لخدمة المصلحة العامّة، والتشجيع على البذل والعطاء من أجل النهوض بمختلف وجوه الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة، وجعل المواطنة قيمة عليا وشعارا مغريا يُعد بغدٍ يكون الأفضل والأكثر تمثيليّة لحركيّة الإنسان المتعلّم المثقّف، وتأثيره في محيطه الاجتماعي وبيئته الإنسانيّة، ففي مثل هذا التوجّه الذّي يشتبك فيه الفردي بالعامّ وتلعب فيه الثقافة والتربية دور الوسيط الفعّال في إحداث التغييرات اللازمة تتمثّل فلسفة سعاد فري التربويّة التي جعت منها قدوة وطنيّة رائدة بدايات بناء الدولة التونسيّة الحديثة.
لا بدّ إذن من التوقّف عند تاريخ الممارسة الكشفيّة لدى هذه المربيّة التي التحقت بالكشّافة التونسيّة عام 1957 باعتبارها مرشدة بفوج الحمّامات بقيادة عبد السلام الجديدي وقائد الجهة إسماعيل طعلوش. وقد مثّلت المحطّة الكشفيّة المحطّة الأبرز في تكوينها القيميّ والسلوكيّ، وفي نضالها من أجل تنشئة شبابيّة قياديّة ومسؤولة تتمتّع برصيد من القيم الإنسانيّة العالية. وهنا نؤكّد الدور النسوي الطلائعي الذي مثّله استقطابها للفتاة الكشفيّة من أجل المساواة بينها وبين الشابّ، ومنحها فرصة تأكيد ذاتها في زمن كان لا يزال متمسّكا بهويّة الجندر واستتباعاتها الوظيفيّة. والمعلوم أنّ التوجّه المحافظ يعزل الفتاة عن الفضاء العامّ، ولا يشجّعها على إثبات ذاتها. لذلك نعتبر أنّ هذا البعد مثّل البعد النضالي النسوي في مسيرة المرأة المربيّة، فقد كانت مؤمنة كلّ الإيمان بالقيم البورقيبيّة المحرّرة للمرأة التونسيّة، وكان مسارها الكشفي يعتني بدرجة أولى بتأطير المرأة الكشّافة، ففي عام 1962 كانت هي وأختها قد التحقتا بدوريّة الفتيات التي كان قائدها وقتئذ محمد الطيّب قائد القسم، وتحمّلت مسؤوليّة مأوى الفتاة الكشفيّة الكائن في 24 نهج الصادقيّة (شارع جمال عبد الناصر اليوم) وكانت تنشط بقسم الفتيات مع القائدات فاطمة بوخريص، ومحرزيّة إسماعيل، وفتحيّة الناصف، ثمّ تحمّلت مسؤوليّة قيادة القسم، وشاركت في الحوار الكشفي التونسي الفرنسي بقيادة القائد محمد رشاد الباجي، كما كانت ضمن قيادة المعسكر الكشفي على قدر هامّ من نضالها النسويّ المبكّر الذّي راهن على رفع التحدّيات الجندريّة المطروحة في لحظة تحوّل تاريخيّة دقيقة، وبذلك تكون قد أسهمت في تأهيل المرأة التونسيّة عبر النشاط الكشفيّ، وترسيخ قيم المساواة والعدالة بين الجنسين في الدولة الحديثة.
اضطلعت سعاد عفّاس خلال التسعينات من القرن الماضي بمهام إداريّة ذات صبغة سياسيّة عندما عيّنت أوّل امرأة معتمدة بقابس، ولكنّها انخرطت بشكل أكبر في الأنشطة البلديّة المحليّة مسهمة في التنشيط الثقافي للمدينة، فمن ذلك أنّها شغلت خطّة مستشارة للبلديّة وعضو باللّجنة الثقافيّة لبلديّة أريانة لدورتين. وقد التقت مع مصطفى عزّوز الكاتب والمربّي والشّاعر المعروف في العمل الجمعيّاتي والثقافي لعقدين من الزمن، وضمن هذه اللّجنة الثقافيّة أثّثت برامج سهرات الخميس بالمنزه السادس (ساحة شكري بلعيد الآن). وأسّست أيضا مهرجان الورد بأريانة (1982) بالاشتراك مع فاعلين ثقافيّين بالولاية. وهي التّي أشرفت على سوق الورد، وأسّست جمعيّة أريانة للورد، وجعلت من هذه التظاهرة التنشيطيّة الثقافيّة حدثا متميّزا في حياة المدينة يحتفل خلاله سنويّا بانتخاب ملكة جمال المهرجان التي لا تقيّم من خلال أناقتها وجمالها فحسب، بل من خلال ثقافتها وكفاءاتها المعرفيّة أيضا، وهو ما يدلّ على تثمين صورة تنويريّة للمرأة التونسيّة يكون فيها جمال الفكر وجمال الجسد متّحديْن.
وفي نطاق هذا الإشعاع الثقافي أسّست سعاد فري عفّاس منذ أربع عشرة سنة جمعيّة منتدى مصطفى عزّوز لأدب الطفل وترأسته إلى سنة وفاتها 2022، وكان ذلك من خلال عقد شراكات تعاون مع المؤسّسات التربويّة التونسيّة، ومع المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم، ومعرض تونس الدولي للكتاب. وقد احتضن البنك العربي لتونس ATB جائزة مصطفى عزّوز لأدب الطفل ودعمها ماديّا، فارتقت بفضل استقطابها لمؤلّفي أدب اليافعين من مختلف بلدان العالم العربي إلى جائزة عربيّة مرموقة أسهمت إسهاما كبيرا في تطوير الكتابة العربيّة الموجّهة إلى الناشئة كمّا وكيفا، ولفتت الاهتمام، عبر ندواتها المزامنة لتتويج المؤلّفين، إلى قضايا الكتابة المستهدفة لهذه الفئة العمريّة من أجل سدّ ثغرة كبيرة، لاتزال قائمة نسبيّا في مكتبة الطفل.
يدلّ مسار المربيّة القدوة سعاد فري عفّاس على أنها امرأة نضال ميداني اتّسعت له حياتها من الشباب إلى الوفاة دون انقطاع، وهو أمر نادر جدّا بل إستنثنائي. وأهمّ مميّزات هذا النضال مثلما تدلّ على ذلك مختلف المراحل التي وفقنا عندها، هو تمسّكها بمفهوم شامل ومتكامل للتربية والتعليم يصل فضاءات الناشئة التربويّة والمدرسيّة بالفضاء العامّ، ويجعل بينهما جسورا وروابط قويّة تنمّي حسّ المواطنة لدى المتعلّمين وتقوّي صلاتهم الثقافيّة بمحيطهم البيئي والاجتماعي، وتهيّؤهم منذ الصغر ليكونوا فاعلين اجتماعيين نشطين في مستقبل حياتهم. كما أنّ المدينة أصبحت بحدّ ذاتها امتدادا للمدرسة تجمع بين البهجة والثقافة والمعرفة في آن، وهو ما يخلق الإحساس بالوحدة الاجتماعيّة لدى المتساكنين وينمّي روابط التعاون والمحبّة بينهم.
إنّ ثقافة حبّ العمل، والإخلاص إلى الواجب، والتفاني في خدمة المصلحة العامّة، والنضال من أجل تونس الحداثيّة، كلّها صفات اجتمعت وتضافرت على تكوين شخصيّة امرأة تونسيّة فذّة هي سعاد فري عفّاس رحمها الله.
جليلة الطّريطر
شارع عبد العزيز آل سعود - نهج الشهيد فرحات ين عافية المنار2 - 2092 - تونس - الجمهورية التونسية